فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الفخر:
اعلم أن قوله تعالى: {غَيْرَ مُضَارّ} نصب على الحال، أي يوصى بها وهو غير مضار لورثته.
واعلم أن الضرار في الوصية يقع على وجوه:
أحدها: أن يوصي بأكثر من الثلث.
وثانيها: أن يقر بكل ماله أو ببعضه لأجنبي.
وثالثها: أن يقر على نفسه بدين لا حقيقة له دفعا للميراث عن الورثة.
ورابعها: أن يقر بأن الدين الذي كان له على غيره قد استوفاه ووصل إليه.
وخامسها: أن يبيع شيئًا بثمن بخمس أو يشتري شيئًا بثمن غال، كل ذلك لغرض أن لا يصل المال إلى الورثة.
وسادسها: أن يوصي بالثلث لا لوجه الله لكن لغرض تنقيص حقوق الورثة، فهذا هو وجه الاضرار في الوصية.
واعلم أن العلماء قالوا: الأولى أن يوصي بأقل من الثلث، قال علي: لأن أوصي بالخمس أحب إلى من الربع.
ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث.
وقال النخعي: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص، وقبض أبو بكر فوصى، فإن أوصى الإنسان فحسن، وإن لم يوص فحسن أيضا.
واعلم أن الأولى بالإنسان أن ينظر في قدر ما يخلف ومن يخلف، ثم يجعل وصيته بحسب ذلك فإن كان ماله قليلا وفي الورثة كثرة لم يوص، وإن كان في المال كثرة أوصى بحسب المال وبحسب حاجتهم بعده في القلة والكثرة والله أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

{مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ} أي من غير ضرار لورثته فلا يقر بحق ليس عليه، ولا يوصى بأكثر من الثلث قاله ابن جبير فالدين هنا مقيد كالوصية، وفي {يُوصِى} قراءتان سبعيتان في البناء للمفعول والبناء للفاعل، و{غَيْرِ} على القراءة الأولى حال من فاعل فعل مبني للفاعل مضمر يدل عليه المذكور، وما حذف من المعطوف اعتمادًا عليه، ونظيره قوله تعالى: {يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والاصال رِجَالٌ} [النور: 36، 37] على قراءة {يُسَبّحُ} بالبناء للمفعول، وقول الشاعر:
ليبك يزيد ضارع لخصومة ** ومختبط مما تطيح الطوائح

وعلى القراءة الثانية حال من فاعل الفعل المذكور والمحذوف اكتفاءًا به، ولا يلزم على هذا الفصل بين الحال وذيها بأجنبي كما لا يخفى، أي يوصى بما ذكر من الوصية والدين حال كونه غير مضار، ولا يجوز أن يكون حالا من الفاعل المحذوف في المجهول لأنه ترك بحيث لا يلتفت إليه فلا يصح مجيء الحال منه، وجوز فيه أن يكون صفة مصدر أي إيصاء غير مضار، واختار بعضهم جعله حالًا من وصية أو دين أي من بعد أداء وصية أو دين غير مضار ذلك الواحد؛ وجعل التذكير للتغليب وليس بشيء، وجوز هذا البعض أن يكون المعنى على ما تقدم غير مضر نفسه بأن يكون مرتكبًا خلاف الشرع بالزيادة على الثلث وهو صحيح في نفسه إلا أن المتبادر الأول وعليه مجاهد وغيره.
ويحتمل كما قال جمع أن يكون المعنى غير قاصد الإضرار بل القربة، وذكر عصام الملة أن المفهوم من الآية أن الإيصاء والإقرار بالدين لقصد الإضرار لا يستحق التنفيذ وهو كذلك إلا أن إثبات القصد مشكل إلا أن يعلم ذلك بإقراره، والظاهر أن قصد الإضرار لا القربة بالوصية بالثلث فما دونه لا يمنع من التنفيذ، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن معاذ بن جبل قال: إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم زيادة في حياتكم، نعم ذاك محرم بلا شبهة وليس كل محرم غير منفذ فإن نحو العتق والوقف للرياء والسمعة محرم بالإجماع مع أنه نافذ، ومن ادعى تخصيص ذلك بالوصية فعليه البيان وإقامة البرهان.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الإضرار بالوصية من الكبائر، وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعًا: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة». اهـ.

.قال ابن عاشور:

والإضرارُ منه ما حدّده الشرع، وهو أن يتجاوز الموصي بوصيّته ثلث ماله وقد حدّده النبي بقوله لسعد بن أبي وقّاص الثلثُ والثلث كثير.
ومنه ما يحصل بقصد الموصي بوصيته الإضرار بالوارث ولا يقصد القربة بوصيّته، وهذا هو المراد من قوله تعالى: {غير مضار}.
ولمّا كانت نيَّة الموصي وقصدُه الإضرار لا يُطلع عليه فهو موكول لدينه وخشية ربّه، فإن ظهر ما يدلّ على قصده الإضرار دلالة واضحة، فالوجه أن تكون تلك الوصيّة باطلة لأنّ قوله تعالى: {غير مضار} نهي عن الإضرار، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
ويتعيّن أن يكون هذا القيد مقيِّدا للمطلق في الآي الثلاث المتقدّمة من قوله: {من بعد وصية} إلخ، لأنّ هذه المطْلقات متّحدة الحكم والسبب.
فيحمِل المطْلَق منها على المقيّد كما تقرّر في الأصول.
وقد أخذ الفقهاء من هذه الآية حكم مسألة قصد المعطي من عطيّته الإضرار بوارثه في الوصيّة وغيرها من العطايا، والمسألة مفروضة في الوصيّة خاصّة.
وحكى ابن عطية عن مذهب مالك وابن القاسم أنّ قصد المضارّة في الثلث لا تردّ به الوصيّة لأنّ الثلث حقّ جعله الله له فهو على الإباحة في التصرّف فيه.
ونازعه ابن عرفة في التفسير بأنّ ما في الوصايا الثاني من المدوّنة، صريح في أنّ قصد الإضرار يوجب ردّ الوصيّة وبحث ابن عرفة مكين.
ومشهور مذهب ابن القاسم أن الوصية تردّ بقصد الإضرار إذا تبيّن القصد غير أنّ ابن عبد الحكم لا يرى تأثير الإضرار.
وفي شرح ابن ناجي على تهذيب المدوّنة أنّ قصد الإضرار بالوصيّة في أقلّ من الثلث لا يوهن الوصيّة على الصحيح.
وبه الفتوى. اهـ.

.قال الفخر:

روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: الإضرار في الوصية من الكبائر.
واعلم أنه يدل على ذلك القرآن والسنة والمعقول، أما القرآن فقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} [النساء: 13] قال ابن عباس في الوصية: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} [النساء: 14] قال في الوصية، وأما السنة فروى عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإضرار في الوصية من الكبائر» وعن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة وجار في وصيته ختم له بشر عمله فيدخل النار وان الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة» وقال عليه الصلاة والسلام: «من قطع ميراثا فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة» ومعلوم أن الزيادة في الوصية قطع من الميراث، وأما المعقول فهو أن مخالفة أمر الله عند القرب من الموت يدل على جراءة شديدة على الله تعالى، وتمرد عظيم عن الانقياد لتكاليفه، وذلك من أكبر الكبائر. اهـ.
قال الفخر:
قال تعالى: {والله عَلِيمٌ حَلِيمٌ} أي عليم بمن جار أو عدل في وصيته {حَلِيمٌ} على الجائر لا يعاجله بالعقوبة وهذا وعيد، والله أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

{والله عَلِيمٌ} بالمضار وغيره، وقيل: بما دبره بخلقه من الفرائض {حَلِيمٌ} لا يعاجل بالعقوبة فلا يغترن المضار بالإمهال أو لا يغترن من خالفه فيما بينه من الفرائض بذلك، والإضمار في مقام الإظهار لإدخال الروعة وتربية المهابة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {والله عليم حليم} تذييل، وذكر وصف العلم والحلم هنا لمناسبة أنّ الأحكام المتقدّمة إبطال لكثير من أحكام الجاهلية، وقد كانوا شرعوا مواريثهم تشريعًا مثاره الجهل والقساوة.
فإنّ حرمان البنت والأخ للأمّ من الإرث جهل بأنّ صلة النسبة من جانب الأمّ مماثلة لصلة نسبة جانب الأب.
فهذا ونحوه جهل، وحرمانهم الصغار من الميراث قساوة منهم. اهـ.
قال ابن عاشور:
وقد بيّنت الآيات في هذه السورة الميراث وأنصباءه بين أهل أصول النسب وفروعه وأطرافه وعصمة الزوجية، وسكتت عمّا عدا ذلك من العصبة وذوي الأرحام وموالي العتاقة وموالي الحلف، وقد أشار قوله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} في سورة الأنفال (75) وقوله: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} في سورة الأحزاب (6) إلى ما أخذ منه كثير من الفقهاء توريث ذوي الأرحام.
وأشار قوله الآتي قريبًا {ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} [النساء: 33] إلى ما يؤخذ منه التوريث بالولاء على الإجمال كما سنبيّنه، وبَيَّن النبي صلى الله عليه وسلم توريث العصبة بما رواه رواة أهل الصحيح عن ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألحِقُوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأوْلى رَجُلٍ ذَكَر» وما رواه الخمسة غير النسائي عن أبي هريرة: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن مات وترك مالا فماله لمَوالي العصبة ومن ترك كَلا أو ضَياعا فأنا وليّه» وسنفصّل القول في ذلك في مواضعه المذكورة. اهـ.

.سؤال وجوابه:

سؤال: لم جعل خاتمة الآية الأولى: {فَرِيضَةً مّنَ الله} وخاتمة هذه الآية {وَصِيَّةً مّنَ الله}؟.
الجواب: أن لفظ الفرض أقوى وآكد من لفظ الوصية، فختم شرح ميراث الأولاد بذكر الفريضة، وختم شرح ميراث الكلالة بالوصية ليدل بذلك على أن الكل، وان كان واجب الرعاية إلا أن القسم الأول وهو رعاية حال الأولاد أولى. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

قوله: «وإن كان رجل يورث كلالة» اضْطَرَبَتْ أقوال العلماء في هذه ولابد قبل التعرُّض للإعراب من ذكر معنى {الكلالة} واشتقاقها، فإنَّ الإعراب متوقف على ذلك، فتقول: اختلف الناس في معنى {الكلالة}.
فقال جمهور اللغويين وغيرهم: إنَّه الميت الَّذي لا وَلَدَ لَهُ ولا والد، وهو قول عليٍّ وابن مسعودٍ.
وقيل: الَّذي لا والد له فقط، وهو قول عمر.
وقيل: الَّذي لا والد له فقط، وهو قول عمر.
وقيل: الَّذي لا ولد له فقط.
وقيل: هو من لا يرثه أبٌ ولا أم، وعلى هذه الأقوال كلِّها قالكلالةُ واقعة على الميت.
وقيل: الكَلاَلَةُ: الورثة ما عدا الأبوين والولد، قاله قُطْرب، وهو اختيار أبي بكر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وسموا بذلك؛ لأنَّ الميِّت بذهاب طرفيه تُكَلِّلُهُ الورثة، أي: أحاطوا به من جميع نواحيه، ويُؤَيَّدُ هذا القول بأنَّ الآية نزلت في جَابِرٍ، ولم يَكُنْ له يَوْمَ نزلت أبٌ ولا ابن.
وأيضًا يقال: كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة وحلم فلان على فلان ثمَّ كَلَّ عنه إذا تباعد، فسميت القرابةُ البعيدةُ كلالة من هذا الوجه.